بين الركام والخِيام... أطفال غزة يتعلمون الموسيقى «للخروج من سواد التاريخ والجغرافيا»

فارس عنبر... موسيقي فلسطيني يساعد الصغار على تخطّي صدمات الحرب

الفنان الفلسطيني فارس عنبر متوسطاً أطفال غزة في حلقة لتعليم الموسيقى (صور عنبر)
الفنان الفلسطيني فارس عنبر متوسطاً أطفال غزة في حلقة لتعليم الموسيقى (صور عنبر)
TT

بين الركام والخِيام... أطفال غزة يتعلمون الموسيقى «للخروج من سواد التاريخ والجغرافيا»

الفنان الفلسطيني فارس عنبر متوسطاً أطفال غزة في حلقة لتعليم الموسيقى (صور عنبر)
الفنان الفلسطيني فارس عنبر متوسطاً أطفال غزة في حلقة لتعليم الموسيقى (صور عنبر)

«الزنّانة» فوق رؤوسهم لا تستريح لحظة، والركام تحت أقدامهم غطّى آثارَ الأحبّة، أما معهم فلا شيء سوى الموسيقى التي تهدر أعلى من طيران الاستطلاع ودوي الحرب.

في كلّ محطّة على طريق النزوح من شمال غزة إلى جنوبها، جمع فارس عنبر وزملاؤه في فرقة «صول» الأطفال حولهم وغنّوا. امتدّ الدرب المشظّى والمزروع أشلاءً، سلّماً موسيقياً رفعَ صغارَ القطاع المدمّر من قعر الحزن إلى قمّة الفرح، ولو لدقائق قليلة.

شمس أمل فوق غزة

«بكتب اسمك يا بلادي ع الشمس لما بتغيب»، يصدح الأطفال ملء حناجرهم وفارس يدير الدفّة، وكأنّ الشمس تسطع أملاً في سماء غزة. «هذا ما اعتدتُه منذ كنت في الـ12 من عمري خلال حرب 2008 وعلى مَرّ الحروب التي تلت. كان شقيقاي الأكبر منّي يعملان في مجال الدعم النفسي للأطفال، وينظّمان أنشطة لمساعدتهم على التمويه عن أجواء الحرب. رافقتُهما واكتسبتُ ذلك منهما. ولاحقاً عندما كبرت وصرت عازف إيقاع محترفاً ومدرّس موسيقى، حاولت الدمج بين الفن وخدمة الوطن كلّما اجتاحتنا حربٌ جديدة».

يتابع فارس (28 سنة) الحكاية متحدّثاً لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف: «خلال الشهر الأول من هذه الحرب، بقيت داخل المنزل أؤلّف أغاني عمّا يجري، لكن مع مرور الوقت وجدتُني أستعيد أكثر ما أحب القيام به». وأكثر ما يحبّ فارس هو اكتشاف المواهب الموسيقية لدى الأطفال، ومساعدتهم على تطويرها. فبات ينزل يومياً إلى الشوارع ويجول في المخيّمات، منظّماً حلقاتٍ موسيقية للأطفال والمراهقين ذات هدفَين فنّي ونفسي.

ينظّم فارس عنبر حلقات موسيقية لأطفال غزة من أجل مساعدتهم على تخطّي صدمات الحرب (صور عنبر)

الخيمة مسرح والركام ديكور

لكن من أين تأتي الطاقة على الغناء والعزف والضحك، فيما الموت ينتظر على بُعد أمتار؟ «لا خيار سوى ذلك»، يجيب فارس؛ وكأنه عازف الكمان على الـ«تيتانيك»، ذاك الذي ظلّ ممسكاً بآلته مُطلقاً ألحان الفرح فيما السفينة تلفظ أنفاسها الأخيرة. لا يعرف كيف يفسّر تلك الحالة التي أصابته والأطفال، فيحاول اختصارها بالقول: «طالما نحن نعزف ونغنّي، فلا نخشى شيئاً... لا الزنّانة التي تحلّق فوق رؤوسنا ولا أصوات القصف. لكن ما إن تصمت الموسيقى، حتى تعود الحرب ويخيّم القلق على الفرقة والأطفال».

«ميّل على بلدي لتشوف كيف البحر بيضحكلك...». تكرّ سبحة الأغاني من قلب مخيّمات النزوح، ومن على شاطئ غزة. تصير الخيمة مسرحاً والركام ديكوراً، ويمتدّ الرمل على اتّساع أحلام الأطفال. عنهم يقول فارس إنهم منحوه القوّة للاستمرار في مشروعه رغم ظروفه الشخصية الصعبة، فهو خسر 80 صديقاً وتهدّمَ بيتُه كما أنه تغرب عن عائلته؛ «براءتهم والسعادة في عيونهم وطاقاتهم العالية أرغمتني على الصمود. شعرتُ مرّة بأنّي مستعدّ للعيش 5 سنوات إضافية من الحرب، حتى أبقى إلى جانبهم وأعلّمهم الموسيقى وأكتشف مواهبهم!».

فارس برفقة الأطفال في نزهة على شاطئ غزة (صور عنبر)

غصة الخروج من غزة

تجاوبَ الأهالي مع مشروع فارس وفرقة «صول». «لماذا يرفضون مَن يُخرج أولادهم من حالة لا شبيه لسوادِها في التاريخ والجغرافيا؟». أما الأطفال فوجدوا في النشاط فسحة سلام تهدّئ روعَ الويلات التي ارتسمت على وجوههم. يخبر فارس كيف أن «الحواجز انكسرت بسرعة» بينهم، مضيفاً والفخرُ واضحٌ في نبرته أنّ من بينهم مواهبَ صدمته.

قبل أيام خرج من غزة منتقلاً إلى الدوحة، على أن يتّجه منها إلى إسطنبول حيث والدتُه التي لم يرها منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. بين الاطمئنان والحزن تتأرجح مشاعره بعد الرحيل: «تركت خلفي عشرات الأطفال الموهوبين والقادرين على حمل القضية الفلسطينية من خلال أصواتهم. لم أرَ مثل الطفل الغزّاوي بإرادته وطاقته اللتَين لا حدودَ لهما». يحرص على التذكير هنا بأنّ مشروعه، وإلى جانب هدفَيه الإنساني والنفسي، يحمل رسالة مفادها بـ«أننا في غزة لسنا شعباً كُتب للدمار والموت، بل نحن نحب الحياة والفنّ ونستحقّ أن يُنظَر إلى مواهبنا باحترام وإعجاب، ليس فقط لأننا تحت القصف والقتل».

فارس عنبر: «لسنا شعباً كُتب للدمار والموت بل نحن نحب الحياة والفنّ» (صور عنبر)

«راجعين يا هوى»...

«هدّي يا بحر هدّي طوّلنا بغيبتنا»... حلقة موسيقية أخرى وموّال جديد يعلو على أصوات الحرب. تتنوّع الأغاني التي يختارها فارس للأطفال، فمنها ما هو تقليدي حفظه الجميع مثل «الدحّية الفلسطينية». يعلّمهم كذلك أغاني فرقة «صول» الخاصة والمتمحورة حول الأمل والفرح، إلى جانب الأغاني الحصرية التي جرى تأليفها خصّيصاً من أجل المشروع. وثمة مساحة كذلك للأغاني الكلاسيكية، فهم حفظوا مثلاً «قلبي ومفتاحه» لفريد الأطرش، و«راجعين يا هوى» لفيروز، حتى إنهم بدأوا تعلّم الأغاني التركية.

كان فارس يقوم بزيارة لعائلته في غزة عندما اندلعت الحرب، فلم يستطع العودة إلى تركيا حيث كان يدرّس الإيقاع للصغار والكبار إلى جانب فرقة «صول» منذ 6 سنوات. اتّخذ التعليم اتّجاهاً آخر في القطاع، وحصد الشاب من هذه التجربة حكاياتٍ لن تخرج بسهولة من ذاكرته.

لولو ويوسف وقصصٌ أخرى

«لولو» حكاية بذاتها... تلك الشقراء الصغيرة التي نزحت وعائلتها إلى خيمة مجاورة لخيمته. ذكّرته بابنة أخيه، فصارت طفلة السنوات الثلاث بمثابة علاجٍ نفسي له. انضمّت إلى المغنّين وتآلفت مع الطبلة والدفّ. وعندما غادر فارس القطاع، مرضت لولو لشدّة الحزن.

فارس والطفلة لولو التي نشأت بينه وبينها علاقة روحيّة خاصة (صور عنبر)

لـ«يوسف» حكايتُه كذلك... تنبّه فارس لصوته من بين عشرات الأصوات. لكن خلف المديح النبوي الذي أدّاه بإتقان، اختبأت مأساة طفلٍ خسرَ أخوَيه في الحرب وأضاع والده على طريق النزوح. يعلّق فارس قائلاً: «ساعدته أنشطتنا الموسيقية على نسيان ما هو فيه، وهذا أثّر بي كثيراً».

وفيما كان فارس يكتشف أنّ على أرض غزة ما يستحقّ الحياة رغم كثافة الدمار والدماء، كانت تتلاحق مآسي الحرب. آلمَه أنّ كثُراً ممن اجتمع معهم حول الموسيقى، قضوا من جرّاء القصف أو الجوع. هو كذلك حمل ندوباً على الجسد وفي الروح. أصوات الطيران تسببت له بمشكلات في الأذنَين فكاد أن يفقد السمع، هذا إضافة إلى خسارته 20 كيلوغراماً من وزنه ما انعكس ضعفاً في النظر. أما على المستوى النفسي، فيخبر: «زاد صمتي بعد كل ما عاينت وبسبب شعوري بالغربة عن أهلي. صرتُ أميل إلى العزلة، أنا الذي لطالما عُرفت بطاقتي الإيجابية وحبّي للاختلاط بالناس».

التمارين الموسيقية مع الأطفال... بين الملاجئ والخيام وشوارع غزة المدمّرة (صور عنبر)

لم تطفئ الآلامُ النغماتِ ولا الأحلام، إذ يعيش فارس اليوم على أمل التئام شمل عائلته، وعلى طموح الاستمرار في مشاريعه الموسيقية. ومن بين تلك المشاريع ما هو غالٍ على قلبه؛ استئناف صناعة آلات الدف والطبلة من توقيعه، بهدف توزيعها مجاناً على العازفين الذين لا تسمح لهم إمكانياتهم المادية بشراء تلك الآلات.


مقالات ذات صلة

«الأونروا»: التهجير القسري دفع أكثر من مليون شخص للفرار من رفح

المشرق العربي خيم للنازحين الفلسطينيين في رفح (أ.ف.ب)

«الأونروا»: التهجير القسري دفع أكثر من مليون شخص للفرار من رفح

قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» اليوم الاثنين إن التهجير القسري دفع أكثر من مليون شخص للفرار من مدينة رفح

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي جانب من الدمار جراء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة (أ.ف.ب)

مقتل 4 في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات وسط غزة

أفاد التلفزيون الفلسطيني، اليوم (الأحد)، بمقتل 4 فلسطينيين في قصف للجيش الإسرائيلي استهدف منزلاً في مخيم النصيرات وسط غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت (أ.ف.ب)

غالانت: ندرس بدائل لـ«حماس» في حكم غزة

قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، اليوم (الأحد)، إن إسرائيل لن تقبل استمرار حركة «حماس» في حكم قطاع غزة في أي مرحلة خلال عملية إنهاء الحرب.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
الخليج أكدت الإمارات أهمية البناء على مقترحات الرئيس الأميركي من أجل إيجاد أفق سياسي جاد لإعادة المفاوضات لتحقيق السلام الشامل (أ.ف.ب)

الإمارات تثمّن «مقترحات بايدن» وتدعو للتعامل بجدية مع مساعي وقف التصعيد بالمنطقة

أكد الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي، على أهمية المقترحات التي قدمها الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن الأوضاع في قطاع غزة، مثمّناً هذه…

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي يعود الفلسطينيون إلى منازلهم المدمرة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من منطقة جباليا في شمال قطاع غزة حيث استمرت الهجمات البرية لمدة ثلاثة أسابيع تقريبا (د.ب.أ)

آمال دولية بوقف النار في غزة بعد مقترح بايدن: «فرصة لسلام دائم»

توالت ردود الفعل المرحبة، عقب الإعلان المفاجئ للرئيس الأميركي جو بايدن بتقديمه مقترحاً إسرائيلياً يتكون من ثلاث مراحل.

«الشرق الأوسط» (غزة)

تكنولوجيا تحوّل الغاز الطبيعي وهو في البئر لهيدروجين !

تكنولوجيا تحوّل الغاز الطبيعي وهو في البئر لهيدروجين !
TT

تكنولوجيا تحوّل الغاز الطبيعي وهو في البئر لهيدروجين !

تكنولوجيا تحوّل الغاز الطبيعي وهو في البئر لهيدروجين !

أفادت الخدمة الصحفية لمؤسسة العلوم الروسية في بيان لها بأن علماء كيمياء طوّروا تكنولوجيا تسمح بتحويل الغاز الطبيعي إلى الهيدروجين بنسبة عالية من الكفاءة داخل حقول الغاز مباشرة، ما يقلل من تكلفة إنتاج الهيدروجين.

ومن أجل المزيد من التوضيح، قالت إيلينا موخينا الباحثة الأولى بمركز سكولتيك لعلوم وتكنولوجيا إنتاج الهيدروكربون «ان جميع مراحل العملية المقترحة تعتمد على تكنولوجيات مجربة ولم يتم تكييفها من قبل لاستخراج الهيدروجين من طبقات الغاز الحقيقية. ولقد أثبتنا أن الأسلوب المقترح سيحوّل الهيدروكربونات إلى وقود أخضر داخل حقل الغاز بكفاءة تصل إلى 45 %». وذلك وفق ما نشرت وكالة أنباء «تاس» الروسية.

واضافت الباحثة ان التكنولوجيا التي طوّرها الباحثون ستجعل الإنتاج الصناعي للهيدروجين عملية آمنة للبيئة في مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ ان أول أكسيد الكربون المتولد أثناء إنتاج الوقود الأخضر سيبقى داخل الطبقات التي يستخرج منها الغاز الطبيعي عادة، وللقيام بذلك، يكفي ضخ بخار الماء ومحفز يعتمد على أكسيد النيكل والألمنيوم في البئر، ما يسمح بتقسيم جزيئات الهيدروكربون إلى الهيدروجين وأول أكسيد الكربون مع وجود جزيئات الأكسجين. وبعد ذلك يتم ضخ الأكسجين النقي أو الهواء العادي إلى طبقة الغاز الطبيعي، وتبدأ عملية الاحتراق حيث يتم تحويل الميثان وهيدروكربونات أخرى إلى الهيدروجين الذي يخرج من البئر عبر غشاء لا يسمح بمرور غازات أخرى من خلاله».

وفي هذا الاطار، قام العلماء باختبار هذه التكنولوجيا على سلسلة من التجارب بمفاعلات خاصة تحاكي إنتاج الظروف السائدة داخل الطبقات الصخرية الحاملة للغاز؛ وقد ساعدت علماء الكيمياء على اختيار ظروف التفاعل الأمثل، بما في ذلك تسخين الغاز لدرجة حرارة 800 درجة مئوية وتركيز بخار مرتفع، يمكن استخراج حوالى 45 % من الهيدروجين من الميثان الموجود في البئر.

ويخلص العلماء الى القول ان مثل هذا المستوى من الكفاءة «يجعل من الممكن إنتاج الهيدروجين مباشرة داخل رواسب الغاز الطبيعي، ما يقلل من تكلفة إنتاجه، فضلا عن تقليل الضرر على البيئة والمناخ». مشيرين في الوقت نفسه، الى أن «الكفاءة النهائية لإنتاج الهيدروجين قد تنخفض إلى حد ما إذا كانت هناك مواد داخل الطبقات الصخرية يمكن أن تتفاعل مع الميثان والماء والأكسجين».