تبدو الأمكنة مختلفة بعين الفنان، حين ينهل من تاريخها الاجتماعي وإرثها، مضموناً جديداً يختزله في عمله الفني، وهو الأسلوب الذي يتبعه الفنان السعودي عبد الله العثمان، الذي خرج من رحم الكتابة الأدبية ليدخل إلى عالم الفن المعاصر من أوسع الأبواب، إذ يُعرض له حالياً عملان، أحدهما يتناول لغة المدينة في «بينالي الدرعية» بالرياض، والآخر يتناول مفهوم السراب في الصحراء، بمدينة العلا (شمال غربي السعودية).
يتحدث العثمان لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «أتحرك دائماً ما بين الصحراء والمدينة، وتستوقفني الأمكنة كثيراً». وعند البدء من عمله الأخير الذي أسماه «جغرافيا الأمل»، الذي يأتي ضمن معرض «ديزرت إكس العلا 2022»، وهو أشبه ببحيرة تخيليّة، يشير العثمان إلى أنّ السراب في الصحراء لطالما كان مصدر إلهام لفترة طويلة من الزمن، ومنقذاً للناس من الموت مرات عديدة. مضيفاً أنّ «السراب يغسل التعب واليأس، ليُبدله بالأمل».
«جغرافيا الأمل»
يصف العثمان «جغرافيا الأمل» بالقول: «كل نظرية علمية لها جانبها الشعري، ونظرية انكسار الضوء يتلخص جانبها الشعري في ظاهرة السراب. فكثيراً ما أوجد السراب الأمل في نفوس رحالة الصحراء وعلمهم الصبر ومنحهم رفاهية الحلم، حيث يخدع السراب الذي يشبه المياه عقول الرحالة ويحفزهم ليخطوا خطوات إضافية حتى يصلوا إلى وجهتهم المقصودة». مشيراً إلى أنّ السراب مهد لسكان الصحراء الوصول إلى أماكن جديدة، وخلق داخلهم حبّ الاطّلاع والحركة والحث على المسير قدماً.
ويستشهد العثمان هنا بواحدة من القصص التاريخية الشهيرة، وهي قصة السيدة هاجر، التي كانت تبحث جاهدة عن الماء في وادٍ ليس فيه زرع، وتصعد جبلي الصفا والمروة بمكة المكرمة في محاولة منها لإرواء عطش ابنها سيدنا إسماعيل. قائلاً: «كان السراب يُحركها ما بين الجبلين، إلى أن ظهر لها الماء بالحث والحركة». مبيناً أنّه اتجه لدمج خريطتين من الصفا والمروة بهذا الشكل الفني خلال العمل.
ويوضح العثمان أنّ «جغرافيا الأمل» خليط ما بين النظريات العلمية والإرث التاريخي وثقافة الصحراء وتضاريس العلا، مبيناً أنّ الكثير من الأسئلة كانت تستحثه لخلق هذه الحالة الفريدة عبر عمله الفني المستلهم من عمق المكان، معتبراً أنّ الصحراء لم تتغير منذ ذاك الحين إلى الآن، مع محدودية التغيرات المناخية والطبيعية التي واجهتها، مما يجعلها شاهدة على اكتشاف فطنة الإنسان الأول في هذه الطبيعة الصرفة.
«اللغة والمدينة»
يبدو الأمر مختلفاً في المدن، حيث التطور والمعرفة والاختلافات والمتضادات وتعدد أساليب الإنسان في النمو، يضيف العثمان: «دائماً لدي هاتان الحالتان في التجربة التي أعيشها، وأرغب في نقلها بجوانب فنية». وينتقل هنا للحديث عن عمله (البيان: اللغة والمدينة) الذي يُعرض حالياً في (بينالي الدرعية) بالعاصمة الرياض، إذ جاء مليئاً بالتفاصيل التي جمعت مصابيح النيون وصناديق الإضاءة واللافتات الخشبية».
عمل العثمان على اختزال المدينة في عناصرها البصرية الثقافية ولغتها المعمارية، ليشكل هذا العمل تجلّيّاً فنيّاً لها، مع اهتمامه بشكل خاص بدراسة معاني العلامات والرموز، وإعادة استعمال الإعلانات واللافتات. وهنا يقول: «إنّ المدينة تستنبط هويّتها من لغة سكَّانها، حيث إن الكلمات تعبِّر عن الأسماء والمكونات الأساسية للمناظر الطبيعية. وبهذه العملية، يصبح الموقع هوية، بل خلفية سردية لسيرة كل ساكن».
ويشير العثمان إلى استخدامه اللافتات التي كانت موجودة في مدينة الرياض بنفس الفكرة، قائلاً: «في كل يوم نسير داخل المدينة نلحظ أنّ اللغة حاضرة دائماً، تستوقفنا في لافتة محل بقالة، أو مغسلة ملابس، أو صالون نسائي، أو مستوصف... كلها مواقع لا نستطيع معرفتها إلّا باللغة». ويعتقد العثمان أنّ اللغة في المدينة تكشف كذلك عن جوانب من الوضع الاجتماعي وحالة التطور ونمو المدينة ونمو الإنسان داخلها.
يأتي ذلك بعد بحث أجراه العثمان في الخط الزمني للمواد والتسميات، ليتبين له أنّه بالإمكان اكتشاف الكثير من ملامح الثقافة الاجتماعية ومتغيراتها من خلال هذه اللغة. ويشير إلى أنّه في فترة زمنية معينة كانت التسميات المستخدمة على غرار «الأمل» و«السعادة»، من ثمّ تشكلت التسميات من عمق الثقافة الإسلامية، لتحمل اللافتات أسماء مثل «غرناطة» و«الأندلس» و«الحمراء»، وكذلك ظهرت التسميات المستوحاة من طبيعة المكان، مثل: الياسمين، والورود، والنفل، والخزامى... وهو ما يراه يتشكّل وفق معطيات الفترة الزمنية ذاتها.
«بيت القصدير»
والعثمان الذي بدأ نشاطه الفني في عام 2014. بتجارب وأسئلة مزدحمة في الفن والحياة والمكان، اشتهر بعمله «بيت القصدير» في مدينة جدة، الذي كوّنه من رقائق الألومنيوم عام 2017. ثمّ كرر التجربة ذاتها في مدينة الخبر وبعدها في العُلا، انعكاساً للأصداء الجيدة التي حظي بها «بيت القصدير». قائلاً: «أتحرك ما بين المدينة والصحراء، مع اختلاف المواد، فنحن نعيش في المدينة لكن تسكننا الصحراء».
وبسؤاله عما حفرت الصحراء داخله كفنان، يجيب: «نحن تعلمنا من الصحراء وممن سكنوها قبلنا، معنى التعابير والأخلاقيات والسلوك الإنساني، وانتقلنا بعدها إلى المدينة بالعلم والمعرفة والتطور البشري، لنصل إلى أعلى مستويات التمدن والتحضر». مشيراً إلى أنّ الصحراء منحت أبناءها الفراسة والحنكة والجَلد، على اعتبار أنّه لا أحد يستطيع العيش فيها إلّا وبداخله كتلة من الأمل والصبر والقوة.
لكن ما الذي يلهم العثمان ليستشف هذه المعاني ويختزلها في أعماله الفنية؟ يجيب: «قد يلهمني سباق 100 متر للقفز على الحواجز، وربما طبق مُحضر في مطعم، وكذلك الحكايات المتطايرة بين الناس، وتعدد الجنسيات والثقافات في المدينة، وتلهمني الموسيقى أيضاً، وحركة الناس بين شوارع المدن... لا يوجد شيء واحد، لأنّ الفنان يلتقط دائماً الحالة والتعابير من حوله».