الديناميكية المتغيرة.. أبعاد الدور الأمريكي في مكافحة الإرهاب في أفريقيا

محمد منصور

 

اتسمت السياسة الأمريكية العامة -على المستويين الأمني والعسكري- فيما يتعلق بملف الأنشطة الإرهابية في أفريقيا وسبل مكافحتها والتصدي لها بديناميكية متغيرة بشكل لافت على مدار العقدين الماضيين، تعددت في طياتها المنطلقات الأساسية لتحرك واشنطن في مواجهة المخاطر الإرهابية المنتشرة في عدة دول أفريقية، وهو تعدد فرضته عدة عوامل داخلية ودولية، من بينها تعديل بعض الإدارات الأمريكية المتعاقبة لمقاربتها بشأن هذا الملف، وكذا تغير مستويات التهديد الإرهابي على مستوى الكم والنوع، بشكل يجعل ملف مكافحة الإرهاب ضمن أهم ملفات التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأفريقية، خاصة خلال المرحلة المقبلة.

لفهم أكبر للدور الأمريكي في مواجهة الإرهاب على الأراضي الأفريقية، لا بد من العودة بشكل أو بآخر لطبيعة الوجود الأمني والعسكري لواشنطن في القارة الأفريقية خلال المراحل السابقة، حيث ركزت واشنطن في مرحلة الحرب العالمية الثانية على وجود وحدات عسكرية تابعة لها في نطاق شمال أفريقيا؛ لمواجهة تحركات الفيلق الأفريقي الألماني والقوات الإيطالية المساندة له، فكان الإنزال البحري الأمريكي الأول في الشمال الأفريقي، وتحديدًا على الساحل المغربي في نوفمبر 1942، لتدور معارك كر وفر بين القوات الأمريكية والبريطانية من جهة والقوات الألمانية والإيطالية من جهة أخرى، أفضت إلى إنهاء وجود قوات المحور في شمال أفريقيا، وإحباط محاولة ألمانيا النازية، والسيطرة بشكل كامل على ساحل شمال أفريقيا. في المرحلة التالية لهذه المواجهة، استقرت القوات الأمريكية بشكل دائم في الأراضي الليبية، عبر خمسة قواعد عسكرية رئيسة، من بينها قاعدة “ويليس” الجوية (معيتيقة حاليًا)، وظلت القوات الأمريكية موجودة في هذه القواعد إلى أن قامت بمغادرتها منتصف عام 1970.

يلاحظ هنا أن التغيرات المتسارعة في ديناميكية الدور الأمريكي في أفريقيا بدأت في الظهور بشكل واضح في مرحلة الحرب الباردة؛ فقد انتقلت واشنطن من تأطير وجودها العسكري في أفريقيا لمواجهة تحركات قوات المحور إلى دعم حلفائها ذوي الوجود “الاستعماري” في القارة الأفريقية، خاصة فرنسا وبريطانيا، وكذا دعم الأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية الموالية لواشنطن، والحركات المسلحة والانفصالية المناهضة للشيوعية، مع وجود محدود وغير دائم لبعض وحداتها البحرية والجوية في عدة دول أفريقية، من بينها ليبيريا مثلًا، وهذا كله ضمن استراتيجية أساسية ميزت التحركات الخارجية الأمريكية في هذه الفترة، استهدفت مواجهة تحركات الاتحاد السوفيتي على كافة المستويات.

في ذلك التوقيت، كانت الأنشطة المسلحة لجماعات ما دون الدولة ترتبط بشكل أساسي بالحراك السياسي والاجتماعي الذي اتسمت به القارة الأفريقية طيلة فترة الحرب الباردة، وكانت منحصرة في أشكال نمطية أساسية مثل الحركات الانفصالية والمتمردة، والانقلابات العسكرية، والمواجهات العسكرية بين المناطق والمقاطعات والدول، سواء على خلفية محاولات انفصال واستقلال، أو على خلفية نزاعات جيوسياسية، أذكاها التوتر المستمر الذي كان سائدًا بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية.

بانهيار الاتحاد السوفيتي، انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية في جهود استشراف الوضع الدولي الجديد وتحديد كيفية التعامل معه، خاصة وأن مرحلة ثمانينيات القرن الماضي قد شهدت صعود التيارات الإرهابية الأصولية المسلحة -خاصة في دول شمال أفريقيا- والتي -للمفارقة- تعاونت واشنطن مع قسم منها؛ لمواجهة القوات السوفيتية في أفغانستان، وبدا أن مرحلة ما بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي من هناك تحمل في طياتها احتمالات كبيرة لدخول واشنطن في مواجهة مفتوحة مع هذه التيارات.

يضاف إلى ذلك أن السياسة الأمريكية الدولية قد تحولت خلال تلك المرحلة من “مواجهة المد الشيوعي” إلى محاولة دمج الأنظمة الشيوعية السابقة -بما في ذلك الأنظمة الحاكمة في بعض الدول الأفريقية- في المنظومة الدولية التي تكونت في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهذا أدى -بشكل أو بآخر- لتراجع الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية على المستوى الأمني والعسكري، لصالح الشرق الأوسط وآسيا.

لكن حدث تغير مهم في النظرة الأمريكية للقارة الأفريقية، بعد وصول إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى السلطة عام 1993، حيث شرعت في إعادة تقييم العلاقات الأمريكية – الأفريقية؛ نتيجة لعدة عوامل، أهمها: بروز القارة الأفريقية كمورد محتمل ومهم للطاقة والبترول والغاز للولايات المتحدة الأمريكية، وتزايد أهمية تأمين التدفقات الملاحية من منابع البترول في الخليج العربي نحو أوروبا والولايات المتحدة، في ظل تصاعد أنشطة تنظيم القاعدة وبعض المجموعات الأصولية، وكذا تعدد الملفات المرتبطة بالأوضاع السياسية في الدول الأفريقية، وهي ملفات تتصل بشكل أو بآخر بالمشهد الشرق أوسطي الذي كان في طور التشكل خلال تلك الفترة.

محصلة ما سبق ظهرت بشكل كبير من خلال التدخل العسكري الأمريكي الأول في أفريقيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو مشاركة القوات الأمريكية في عملية حفظ السلام في الصومال عام 1993، المعروفة باسم “يونوصوم”، وهي مشاركة كان الهدف الأساسي منها هو تأمين وصول المواد الإغاثية إلى المناطق الصومالية المختلفة، لكنها تحولت إلى مهمة عسكرية متكاملة واجهت فيها القوات الأمريكية الفصائل الصومالية المحلية الموالية لمحمد فارح عيديد. هذه المهمة -والتي تعدها أوساط عديدة مهمة غير ناجحة- أفضت إلى انسحاب القوات الأمريكية من الصومال، وتوقف مشاركات الجيش الأمريكي في قوات حفظ السلام المتواجدة في افريقيا.

تفجيرات نيروبي ودار السلام وإعادة النظر في المقاربة الأمريكية للملفات الأمنية الأفريقية

حفزت تجربة الصومال واشنطن على إعادة النظر في مقاربتها للملفات العسكرية والأمنية في أفريقيا، حيث جنحت خلال تسعينيات القرن الماضي، إلى بحث كيفية تقديم الدعم التسليحي والتدريبي للقوات الحكومية في الدول الأفريقية؛ بهدف مواجهة التهديدات الإرهابية المتنامية، دون انخراط عسكري أو أمني أمريكي مباشر، إلا أن هذا التوجه تلقى عدة ضربات متتالية، كان على رأسها تصاعد أنشطة تنظيم القاعدة، وتهديده للمصالح الأمريكية وطرق الملاحة البحرية في أفريقيا وآسيا، عبر عدة ضربات، كان أهمها التفجيرات التي طالت في أغسطس 1998، سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، وكذا الهجوم على المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” في اليمن بعد ذلك بعامين.

المعضلة الأساسية التي شابت المقاربة الأمنية والعسكرية الأمريكية في القارة الأفريقية ظلت خلال تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة متمثلة في غموض هذه المقاربة وعدم اتضاح نطاقات نشاط واشنطن ووجودها في الدول الأفريقية المختلفة، الذي كان عمليًا مقسمًا بين ثلاث قيادات عسكرية تقع مقراتها ونطاق نشاطها الأساسي خارج القارة الأفريقية، حيث كان القسم الأكبر من الدول الأفريقية واقعًا في نطاق مسؤولية القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا (USEUCOM)، في حين وقعت دول القرن الأفريقي ومصر ضمن نطاق مسؤولية القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى (USCENTCOM)، وظلت بعض الجزر الأفريقية، وعلى رأسها جزيرة “مدغشقر”، ضمن نطاق مؤسولية القيادة العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ (USPACOM).

تصاعد أنشطة تنظيم القاعدة وتهديده المباشر للمصالح الأمريكية ووصول هذا التهديد لمستويات متقدمة استهدف فيها الأراضي الأمريكية نفسها -عبر هجمات الحادي عشر من سبتمبر- دفع واشنطن إلى البدء جديًا في التفكير لزيادة مستوى انخراطها العسكري والأمني في القارة السمراء؛ ففكرت أولًا في تأسيس حضور عسكري دائم لها، وكانت باكورة هذا التفكير هو تأسيس تمركز أمريكي عسكري دائم في قاعدة “ليمونييه” الفرنسية السابقة في جيبوتي بداية من مايو 2001، والتي باتت منذ ذلك التوقيت القاعدة الدائمة الوحيدة للجيش الأمريكي في منطقة القرن الأفريقي، وتغيرت خلال الفترات الماضية المهام الموكلة إليها، حيث كان الغرض الأساسي من تأسيس هذا التواجد الأمريكي في البداية هو تقديم المساعدات الإنسانية وتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب وإزالة الألغام، لكن تحولت هذه القاعدة خلال السنوات الأخيرة إلى مقر أساسي للوحدات القتالية التابعة للجيش الأمريكي في أفريقيا.

هذه الخطوة تبعتها خطوات لافتة أخرى تمثلت في المشاركة غير المباشرة لواشنطن في مارس 2002 في العملية العسكرية المشتركة التي نفذتها دول الساحل الأفريقي “الجزائر ونيجريا وتشاد ومالي”؛ لمواجهة مقاتلي “الجماعة السلفية للدعوة والجهاد”، وكذا تخصيص الكونجرس الأمريكي منح مالية لتمويل مبادرة دول الساحل والصحراء لمواجهة التهديدات الإرهابية، ضمن جهود أمريكية بدأت عام 2004، لتوقيع معاهدات أمنية وعسكرية مع عدة دول أفريقية في نفس الإطار.

خلال النصف الأول من العقد الأول من الألفية الجديدة، تصاعد بشكل ملحوظ نشاط تنظيم القاعدة، حيث بدأ التنظيم في نشر فروعه في عدة مناطق حول العالم، خاصة القارة الأفريقية، سواء في شمال افريقيا أو منطقة الساحل والصحراء، أو القرن الأفريقي، في إطار ما بدا حينها أنه سعي حثيث من جانب التنظيم المركزي لتأسيس “إمارات إسلامية” في عدة نطاقات أفريقية. هذا الواقع -بجانب عوامل أخرى تتعلق بزيادة الضغوط على الوحدات العسكرية التابعة للقيادة المركزية والقيادة الأوروبية، نتيجة للعمليات العسكرية في العراق وأفغانستان، وكذا تزايد اهمية حفظ أمن الطاقة الامدادات النفطية، ومواجهة محاولة قوى دولية كبرى  كالصين مثلًا  توسيع وجودها الاقتصادي في أفريقيا- أدت مجتمعة إلى دفع واشنطن إلى تسريع مشاوراتها وتجهيزاتها لإنشاء قيادة عسكرية موحدة في أفريقيا -وهي جهود بدأت عمليًا عام 2003- فأعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في فبراير 2007 عن تأسيس القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (USAFRICOM)، التي انتقلت إلي نطاق مسؤوليتها كافة الأراضي الأفريقية عدا مصر.

القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا … نقلة نوعية للوجود العسكري الأمريكي

كان التحدي الأساسي أمام واشنطن فيما يتعلق بهذه القيادة هو تحديد مقر دائم لها في إحدى الدول الأفريقية، لكن نظرًا لعدة عوامل من بينها تحسس الدول الأفريقية من فكرة “الوجود العسكري الدائم” لدولة أجنبية على أراضيها ارتأت واشنطن أن يكون مقر هذه القيادة الأساسي في مدينة “شتوتجارت” الألمانية التي تستضيف بشكل رسمي المقر الرئيس لهذه القيادة منذ أكتوبر 2008.

الأهداف المعلنة لهذه القيادة كانت تتمحور حول: بناء القدرات التشغيلية، وتعزيز مبادرات الأمن الإقليمي، والقضاء على التنظيمات الإرهابية في أفريقيا؛ من خلال برامج عسكرية ونشاطات ترعاها وزارة الدفاع الأمريكية، وعمليات أخرى تدعم السياسة الخارجية الأمريكية، مع التركيز الدائم على أن تأسيس هذه القيادة لا تستهدف واشنطن من ورائه إدارة الشؤون الأمنية للقارة الأفريقية، أو تأسيس وجود عسكري دائم في الدول الأفريقية.

على المستوى القيادي والإداري، تعد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” تاسع مركز قيادة موحدة أمريكية، وسادس مركز قيادة إقليمية يتم إنشاؤه بعد الحرب العالمية الثانية، وتتألف بشكل رئيس من قطاع القوات البرية، ومقره في مدينة “فيتشنزا” الإيطالية، وقطاع القوات البحرية، ومقره في مدينة نابولي الإيطالية، ووحدات مشاة البحرية، التي تقوم بعمليات وتدريب وأنشطة تعاون أمني في أنحاء القارة، بجانب قطاع القوات الجوية ومقره في قاعدة “رامشتاين” الألمانية، وقوة المهام المشتركة في القرن الأفريقي، التي تتخذ من قاعدة “ليمونييه” بجيبوتي مقرًا دائمًا لها.

في بداية تأسيس هذه القيادة، كان إجمالي كادرها العملياتي والإداري لا يتجاوز 2000 شخص، بمن فيهم 300 عنصر من القوات الخاصة و250 عنصرًا استخباراتيًا، بميزانية إجمالية تقدر ب 350 مليون دولار، لكن في الوقت الحالي يمكن القول إن وحدات وعناصر هذه القيادة يصلون حاليًا إلى ما بين 8 و12 ألف جندي موجودين -بجانب مواقع التمركز الرئيسة في ألمانيا وإيطاليا- في نحو 46 موقعًا في أفريقيا، ما بين قواعد رئيسة ووحدات دعم عسكري ومواقع خاصة بحالات الطوارئ، أهم هذه المواقع هي:

قاعدة ليمونييه في جيبوتي: ويعمل بها حاليا 3.200 جندي أمريكي، وتلعب دورًا رئيسًا في توجيه القوات الأمريكية في أفريقيا، وتخوض معارك ضد التنظيمات الإرهابية في شرق أفريقيا. تعد هذه القاعدة الوحيدة الدائمة للولايات المتحدة في القرن الأفريقي، وتقوم القوات الخاصة الموجودة فيها بمهام خاصة في نطاق شرق أفريقيا، بجانب اتخاذها كمنصة لتشغيل الطائرات بدون طيار في الصومال واليمن. بالإضافة إلى ذلك، تضم هذه القاعدة الوحدات التابعة لقوة المهام المشتركة في القرن الأفريقي (CJTF).

توجد العديد من التمركزات العسكرية الأمريكية الأخرى في شرق أفريقيا؛ مثل قاعدة “سيمبا” في كينيا التي تضم عناصر من المظليين في الجيش الأمريكي، وتسهم القاعدة في محاربة حركة شباب المجاهدين، وتوجد قوات طوارئ أمريكية في مدينة “بجمبورا” عاصمة بوروندي، وتستخدم القوات الأمريكية مطار “كسمايو” في جنوب الصومال في إدارة العمليات العسكرية، وكذلك موقع نزارة في جنوب السودان، ومطار عنتيبي في أوغندا.

تتمتع الولايات المتحدة بتمركزات ومواقع عسكرية في العديد من دول غرب أفريقيا؛ ففي شمال الكاميرون توجد قاعدة أمريكية داخل إحدى القواعد العسكرية الكاميرونية، ويتم استغلال تلك القاعدة في تسيير الطائرات دون طيار، ويتم استخدام تلك القاعدة كنقطة استطلاع وإدارة العمليات الحربية ضد تنظيم بوكو حرام الذي ينتشر على الحدود الكاميرونية النيجيرية، ويوجد بتلك القاعدة قرابة 300 جندي أمريكي

تعمل واشنطن حاليا على إنشاء قاعدة جوية في مدينة “أغاديز” شمال النيجر، ومن المرجح أن تدخل القاعدة حيز التنفيذ في عام 2024، وعمليًا يوجد جزء أساسي من الوحدات التابعة للقيادة العسكرية الأمريكية الأفريقية في غرب أفريقيا على الأراضي النيجيرية، حيث تعمل هذه الوحدات مع القوات الحكومية ضمن عملية “جونيبر شيلد” لمكافحة الإرهاب.

بالإضافة إلى ما سبق، توجد قواعد أمريكية أخرى في غرب أفريقيا تستخدم من أجل تقديم الدعم اللوجستي؛ مثل قاعدة “أكرا” بغانا و”داكار” بالسنغال وليبيريا ومالي وموريتانيا، و”ليبرفيل” بالجابون، وفي تشاد توجد قاعدة في مدينة “أنجامينا” يتم فيها استخدام الطائرات دون طيار، وتتصدى تلك القاعدة للهجمات الإرهابية للقاعدة وتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين.

قاعدة “واجادوجو” في بوركينافاسو: تتمركز في العاصمة البوركينية قاعدة عسكرية أمريكية صغيرة، هدفها تحقيق التعاون العسكري بين أمريكا ودول غرب أفريقيا وتحقيق المراقبة الأمريكية للساحل الغربي الأفريقي، حيث تعد بوركينا فاسو نقطة تمركز هامة في مراقبة التحركات في ساحل خليج غينيا الغني بالنفط.

جزيرة “أسينشن”: وتقع في مقابل الساحل الغربي الأفريقي تحديدًا أمام الساحل الأنجولي. ويضاف إلى ما سبق، تراجع بعض الدول الأفريقية عن رفضها السابق لوجود قوات امريكية على أراضيها، مثل جنوب أفريقيا، التي تحتفظ القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا فيها بوجود في قاعدتين ببتسوانا وجزر سيشل.

جدير بالذكر هنا أن القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا بدأت عام 2021 في توسيع مساحة وجودها العسكري في أفريقيا -ضمن خطة مدتها خمس سنوات- خاصة في قاعدة “ليمونييه” في جيبوتي، التي تم تحديثها وتوسيع منشآتها، لتصل مساحتها الحالية إلى ما يقرب من 600 فدان، بجانب تنفيذ مشاريع أخرى لاستحداث وتوسيع الوجود العسكري الأمريكي في دول أخرى مثل كينيا التي تحتضن في خليج “ماندا” قاعدة بحرية أمريكية، ومطار “شبيلي” في الصومال.

نقطة أخرى يجب وضعها في الحسبان فيما يتعلق بـ أفريكوم، وهي حقيقة أن إدارة ترامب قد أعلنت اواخر عام 2020، أنها ستدمج قيادة الجيش الأمريكي الأوروبية وقيادة الجيش الأمريكي في أفريقيا، في قيادة موحدة، بغرض إنشاء آليات لنقل القوات الأمريكية بسرعة خاطفة من أوروبا إلى أفريقيا والعكس، لتنفيذ للعمليات العسكرية في حالة وجود تهديد للمصالح الأمريكية، وقد تمت تسمية القيادة الجديدة باسم “القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا وأفريقيا” (USAREUR-AF)، وما زالت عملية الدمج جارية، ومن المتوقع أن تكتمل بحلول النصف الأول من العام المقبل.

“التذبذب” الأمريكي في التعاطي مع مرحلة ما بعد تأسيس “أفريكوم”

كان لتغير أولويات ومقاربات الإدارات الأمريكية المختلفة لملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا تأثير أساسي واضح على مسار عمل “أفريكوم” بعد تأسيسها؛ فبعد وصول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستراجع ملف قيادتها العسكرية في أفريقيا؛ نتيجة لعدة عوامل منها معارضة بعض الدول الأفريقية لفكرة تحويل هذه القيادة إلى “قيادة موحدة” تتمركز بشكل كامل -على المستويات القيادية والقتالية- على الأراضي الأفريقية. حينها تخلت واشنطن -مؤقتًا عن المضي قُدمًا في تنفيذ التوجهات الرامية لتوسيع هذه القيادة، وقلصت عام 2009 الميزانية المخصصة لها. وكانت الترشيحات في ذلك التوقيت تتحدث عن خمس دول إفريقية مهيأة لأن تكون المقر الدائم للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، وهي المغرب والغابون وأوغندا والسنغال وكينيا.

رغم هذا، كان للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا أدوار مهمة في أفريقيا خلال فترة إدارة أوباما، حيث أطلقت عدة برامج للتدريب المشترك مع عدة دول أفريقية، ودفعت بعشرات من جنودها للتدخل بشكل غير معلن في عدة دول أفريقية لحفظ الأمن، مثل تدخل القوات الأمريكية عام 2008 للتمركز في شمال موريتانيا خلال مرحلة ما قبل الانقلاب على الرئيس السابق ولد الشيخ عبد الله، ناهيك عن ضلوع هذه القيادة بدور أساسي في فرض الحظر الجوي والبحري على الجيش الليبي خلال الأحداث الي شهدتها ليبيا عام 2011، وهو دور لم يتضح إلا بعد ذلك بسنوات، ومثل نقطة مهمة ظهرت من خلاله الذهنية التي من خلالها أرادت إدارة أوباما توظيف القيادة العسكرية في أفريقيا.

بوصول إدارة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2017، بدا أن التوجهات الأمريكية حيال قيادتها العسكرية في أفريقيا قد تغيرت بعض الشيء؛ نتيجة للسياسة المعلنة من قبل ترامب خلال هذه الفترة، بإعادة تنظيم تواجد القوات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، إلا أن هذا التغير لم يدم طويلًا، فبحلول عام 2020، وبفعل تصاعد العمليات الإرهابية في نطاق دول الساحل والصحراء، أبطأت واشنطن من وتيرة التخفيض الذي كانت تستهدف القيام به في مستوى نشاطها القتالي في أفريقيا، و انخرطت بشكل تدريجي في عدة عمليات مشتركة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، خاصة في دول مثل كينيا والجابون. وتوسعت إدارة ترامب في اللجوء للضربات الجوية بالطائرات بدون طيار، وهذا يظهر بشكل كبير من خلال مطالعة المنحنى الإحصائي لهذه الغارات قبل وأثناء وبعد إدارة ترامب.

حقيقة الأمر أن إدارة ترامب كانت “منقسمة” على نفسها حيال هذا الملف، ما بين تيار تقود وزارة الخارجية، تريد من خلاله دعم جهود مكافحة الإرهاب في أفريقيا، من زاوية عدم السماح للصين باستغلال التراجع الأمريكي في هذا الملف، وبين تيار آخر تقوده وزارة الدفاع، يريد تخفيض النفقات المترتبة على الأنشطة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، وتعديل استراتيجية مواجهة الإرهاب لتصبح “احتواء التهديدات الإرهابية” بدلًا من “محاولة إضعاف القدرات التي تمتلكها الجماعات الإرهابية”.

وذلك بتركيز الجهود على دعم القوات الحليفة والصديقة بدلًا من الوجود بشكل فعلي على الأرض. هذا الانقسام ظهر حتى فيما يتعلق بتحديد الجانب الأفريقي الذي يحتاج إلى انخراط أمريكي أكبر في مجال مكافحة الإرهاب، هل هو غرب أفريقيا أم شرقها، وإن كانت وجهة النظر التي تميل إلى التركيز على شرق أفريقيا كانت هي الغالبة خلال فترة إدارة ترامب.

إدارة بايدن وتحديات “العودة” لتنشيط جهود مكافحة الإرهاب في أفريقيا

بوصول إدارة بايدن إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت في إعادة تقييم استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، خاصة في ضوء قرار إدارة ترامب في المرحلة الأخيرة من فترتها، بدمج القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا مع القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا.

جاء تنامي النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا، وأهمية ضمان تأمين النفط والموارد الاستراتيجية من الدول الأفريقية، وتراجع الأدوار الأوروبية في دول أفريقية عدة على المستويين الاقتصادي والأمني، وبدء تنظيم داعش في الظهور بشكل أكبر في أفريقيا، جاءت جميعها كمحفزات شرعت إدارة بايدن من خلالها لبحث ما يمكن فعله لتحسين الأداء الأمريكي في هذا الملف، الذي أجمع الحزبان الديمقراطي والجمهوري على أن المقاربة الأمريكية حياله كانت بشكل عام غير فعالة.

هذا الوضع ظهر بشكل كبير من خلال إقرار مجلس النواب الأمريكي في يونيو 2021، قانون “برنامج شراكة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء لعام 2021″، الذي مثل محاولة أمريكية لتحسين أداء وزارة الدفاع الأمريكية فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب في نطاق الساحل والصحراء، وهما النطاقان الأكثر تأثرًا بالأنشطة الإرهابية في أفريقيا. أسس هذا المشروع لشراكة عسكرية لمكافحة الإرهاب، تضم 12 دولة من دول الساحل والصحراء، بجانب مكون مدني يتمثل في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وبرامج كل من وزارة الخارجية أو وزارة الخزانة ومكتب التحقيقات الفيدرالي.

أهمية هذه الشراكة كانت في أنها تجعل المقاربة الأمريكية لمكافحة الإرهاب في أفريقيا أكثر شمولًا، ولا تقتصر فقط على المناورات المشتركة والتدريب والتسليح، وتتفادى في نفس الوقت عدم التوازن بين البرامج الأمريكية العسكرية والمدنية المخصصة لمكافحة الإرهاب، حيث كان الضخ المالي الأكبر موجهًا فيما سبق للبرامج العسكرية، وهو ما كان له انعكاسات سلبية على الجانب التنموي والاقتصادي والاجتماعي من ملف مكافحة الإرهاب.

هذه النقطة ربما كانت من أسباب عدم فعالية المقاربات الأمريكية السابقة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، حيث أثبتت التجارب السابقة -سواء خلال تفشي وباء “إيبولا” في عدة دول أفريقية عام 2014 أو تفشي جائحة كورونا عام 2020- أن الوجود العسكري الأمريكي في أفريقيا كانت له أدوار مهمة ساعدت في التقليل من تأثير هذه الأوبئة على أفريقيا، وحسنت من قدرات التدخل في حالات الكوارث الطبيعية، كما حدث خلال إعصار “إيداي” عام 2019، وجميعها أدوار تسهم في محاصرة النفوذ الصيني، وتحسن من حالة المصالح الأمريكية في أفريقيا.

الخطة السالف ذكرها، أضيف إليها بوادر نشاط أمريكي ملحوظ في مجال برامج التدريب التي تقدمها القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، ضمن البرنامج الأفريقي للتدريب على العمليات الطارئة والمساعدة، وبرنامج زمالة مكافحة الإرهاب، ومن أمثلة هذه البرامج برنامج بدأ في أكتوبر 2021؛ لتدريب وحدات الجيش الموزمبيقي الذين يواجهون انشطة “جيش الرب” الموالي لتنظيم داعش، وكذلك سلسلة من التدريبات التي تقوم بها القوات الأمريكية في الصومال، لتدريب وحدات صومالية متخصصة مثل “لواء البرق” الذي ربما تستمر مهمة تدريبه حتى عام 2027،  وقوات “داناب” الخاصة في الجيش الصومالي.

هذه التدريبات أضيفت إليها تدريبات أخرى نوعية، منها تدريب على تطوير وتحديث المعسكرات ومناطق الإعاشة وتخزين الذخائر، منها تدريب تم بإشراف أمريكي في غانا الشهر الجاري. يضاف إلى هذه البرامج زيادة أعداد المناورات العسكرية المشتركة مع الجيوش الأفريقية المختلفة، ومن أهمها مناورات “فلينتلوك” التي تمت أحدث نسخة منها في ساحل العاج في فبراير الماضي، وتدريبات أخرى تمت خلال العام المنصرم، مثل “Shared Accord” و”MEDETE”.

بشكل عام، يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف الآن موقفًا تحتاج فيه -نظرًا إلى جملة التحديات الحالية في أفريقيا، سواء تلك المتعلقة بالإرهاب أو المتعلقة بتصاعد النفوذ الروسي والصيني- إلى تكثيف انخراطها الأمني والعسكري في أفريقيا، ويبدو أن البنتاجون يعي تمامًا هذا الوضع، وهذا كان ظاهرًا بشكل كبير من خلال تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في أغسطس الماضي التي اتهم الصين فيها بالعمل على توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي، عبر بناء قواعد لها في أفريقيا، لتقويض علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات والجيوش الأفريقية، وحذر من التدخل الروسي في القارة السمراء ومن تآكل الديمقراطية في العديد من دولها.

لذا بالنظر لما سبق، يمكن القول ان واشنطن تستهدف خلال المرحلة المقبلة توسيع هامش وجودها في ملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا -وبشكل محدد في منطقة الساحل والصحراء- ويتوقع أن يلجأ البنتاجون خلال المرحلة المقبلة إلى اتباع استراتيجية متعددة الطبقات في ما يتعلق بهذا الملف، بحيث يتم استغلال القدرات العسكرية الخاصة -الطائرات بدون طيار والعمليات الخاصة- لمواجهة المخاطر الإرهابية المتزايدة في أفريقيا، خاصة في مالي ونيجريا وموزمبيق والصومال وليبيا، وفي نفس الوقت زيادة مستوى الجانب “المدني والتنموي” في هذه الاستراتيجية، وفي نفس الوقت تعزيز قدرات الدول الأفريقية على حماية نفسها ذاتيًا من المخاطر الإرهابية. تحقق هذا الأمر سينقل حتمًا التعاون الأمريكي – الأفريقي إلى آفاق جديدة ستنعكس إيجابًا على المصالح الأمريكية وحالة التنمية المستدامة في أفريقيا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74528/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M