"بين قانون اللغة، ولغة القانون"​

"بين قانون اللغة، ولغة القانون"

نص الدستور المصري الدائم (١٩٧١م) في مادته الثانية بأن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وقد لاحق هذا الدستور عدة تعديلات منها تعديل ٢٢ مايو ١٩٨٠م التي كان للمادة سالفة الذكر نصيب من التعديل لتكون "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهذه هي المادة ٢ من دستور ٢٠١٤ المعمول به في الأقطار المصرية الآن، وربما لا ترى فارقاً بين النصين، ألا أنه ثمة فارق في إضافة أل تعريفية لكلمتي مصدر ورئيسي في المادة المعدلة، وبذلك أصبحت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي الأصيل الأول للتشريع في مصر.

     هذه الإضافة ليست عبثاً، أو تجميلاً للصياغة الدستورية، وإنما التعريف هنا يفيد التخصيص، فكونك تقول "رأيت أستاذاً يشرح في فصل"، لا يستوي بقولك "رأيت الأستاذ يشرح في الفصل"، فقياساً على هذا المثال، الشريعة الإسلامية بعد أن كانت مصدراً من مصادر التشريع قد يزاحمها مصادر أخرى أصبحت قيداً على السلطة التشريعية بسقف وإطار شرعي، فيجب أن تكون القوانين واللوائح في حدود الشريعة، أو على الأقل لا تتعارض مع الشريعة وبالتالي أي تشريع يتعارض مع هذا المصدر الأصيل يعتبر غير دستوري، ولنا في هذه المسألة فيما بعد حديث.

    وهذا قد يأخذنا إلى قاعدة شرعية تلفت الأنظار إلى أهمية الصياغة القانونية اللغوية المنضبطة، تقول: "الضوابط اللغوية أحكام شرعية"، بمعنى أن الحكم الشرعي محكوم باللغة، فأي تغيير في التركيبة اللغوية لنص ما، بلا شك يأخذنا إلى تغيير في مفهوم النص، فذهب النحاة إلى كل زيادة في المبنى زيادة في المعنى والعكس صحيح.

     وعلى سبيل المثال، (الزواج والطلاق)، فالزواج هو عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً، غايته إنشاء رابطة الحياة المشتركة والنسل، والطلاق هو التحلل من عقد الزواج وفسخه بإنهاء الرابطة العقدية بموجب صيغة مخصصة له شرعاً.

    فالعبرة من الدخول في هذه الرابطة أو التحلل منها متوقف -أصلاً- على صيغ لغوية، ينجم عنها آثار قانونية تتمثل في اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، وهذا معروف بقاعدة "العقود ألفاظ"، وكان من المتصور أن يبذل الفقهاء جهداً كبيراً في تحديد الصيغة الموقوفة لإتمام الزواج والطلاق, ولأبين لك قارئي العزيز المسألة من بؤرة واقعية سأرافقك في فرضيتين، الغاية منهما أن يكون للزوجة الحق في تطليق نفسها عندما تريد، وسنرى موقف اللغة من كليهما، الفرضية الأولى أن سيدة اشترطت في عقد الزواج كتابة البند الآتي: "عندما أريد أن أطلق نفسي طلقتها"، والفرضية الثانية أن سيدة -يبدو أنها واعية بالقانون واللغة- اشترطت في عقد الزواج كتابة البند الآتي: "كلما أردت أن أطلق نفسي طلقتها".

    معالجة رجل القانون للبندين القانونيين يلزمه بمعرفة لغوية كبيرة، حيث إن بند "عندما أريد أن..." تجعل للزوجة الحق في تطليق نفسها لمرة واحدة فقط، فوقعت مشكلة بينها وبين زوجها واستعملت هذا الحق الأحادي، ثم ردها إلى ذمته، فلا تستطيع أن تفعل هذا مجدداً، أما بند "كلما أردت أن..." يخوّل للزوجة الحق في تطليق نفسها ثلاث طلقات، لأن كلما ظرف يفيد التكرار، فتطلق نفسها مرة، ثم يردها، ثم تطلق نفسها، ثم يردها، ثم تطلق نفسها وبهذه الطلقة الثالثة تكون استنفزت الطلقات الثلاثة، فإذا كانت تريد المرأة أن يكون لها حق مطلق في التحلل من عقد الزواج فعليها استخدام الفرضية الثانية، أو بمعنى أصح (كلما) التي تفيد التكرار، ومفتاح هذه الحيلة هو الاستخدام المنضبط للغة.

    وأما الطلاق, فيجب التفرقة بين وقوعه واثباته, فالوقوع هو أن ينطق الرجل الصيغة الشرعية المخصصة قاصداً الطلاق, ويكون كاملاً للأهلية التي لا تحيل بينه وبين القيام بهذا الفعل, وقد تتعجب من التدقيق اللغوي عن الفقهاء في الشريعة بخصوص تلك المسألة, فلو أن رجلاً قال لزوجته: "أنت طالق" بهذا الصورة يقع الطلاق, وتحسب طلقة, أما لو حرف في لفظة الطلاق يُسأل عن نيته! فلو قال: "أنت طالء" كنطق أهل مصر ولبنان لحرف القاف أو "أنت تالك" يسأل حينها عن نيته, فيقول الإمام البيجوري صاحب الحاشية في هذا الصدد: "ولو كانت لغة قومه" أي حتى لو تعارف بين أهل تلك البلدة على استخدام الهمزة عوضاً عن القاف مثلاً, أما الاثبات هو تدوين عقد الطلاق بالواسطة التي ترتضيها الدولة توثيقاً للحقوق.

    وأيضاً معرفة القاضي بأحكام وقواعد اللغة تغني الخصوم من فهم الحكم على غير مراد القاضي، وتفيد القاضي في تفسير النصوص القانونية، وكتابة الأحكام والاستشارات بطريقة منضبطة، فلو أصدر المشرع قانوناً قال فيه "أن السلطة التشريعية قد وافقت وارتضت بتبديل القانون المدني المعمول به أمام المحاكم الأهلية والمختلطة ١٨٨٣م بالقانون المدني المصري ١٩٤8م" فمعنى النص ليس المعنى الذي يريده المشرع، لأن المعنى الذي يريده  هو نسخ القانون المدني القديم، ويحل محله القانون المدني الجديد، ولكن المسطور الحاصل غير ذلك, فما الصواب قانوناً ولغة؟ أن يقول: " أن السلطة التشريعية قد وافقت وارتضت بتبديل القانون المدني المصري ١٩٤8م بالقانون المدني المعمول به أمام المحاكم الأهلية والمختلطة ١٨٨٣م", فالقاعدة اللغوية تقول: "الباء تدخل على المتروك", أي أنك عندما تخلع القميص الأبيض وترتدي الأسود عليك أن تقول: "بدلت الأسود بالأبيض", وغير ذلك يكون خاطئاً!

    وقد يرى أحدهم أن التدقيق في اللغة أمر مبالغ فيه, يتنافى مع الواقع, ولكن أنا لا أرى ذلك تحت أي ظرف من الظروف, لأن تلك اللغة بعيداً عن القانون هي التعبير الصادق عما يستقر في الأذهان, فهي تعبير مادي عن أفكار معنوية, وليس من المتصور أن تشتري عقاراً وتبرم عليه تعاقداُ بأفكار معنوية كرغبتك في الشراء, ورغبة المالك في البيع! بل لابد أن تفصح عن تلك المعنويات بلغة تبين الشروط وتصل لاتفاق ما, فإني لا أحدثكم عن (يوتوبيا) أو مدينة فاضلة, فإن العالم به ما به من الصراعات اللا متناهية, ولا يعصم حقك من الهلاك وسط هذه المصالح المتضاربة إلا أن تعبر عنه بالقانون بطريقة لغوية صحيحة.

    واللغة ليست مهمة فقط في شأن العقود بين الأفراد، بل هي هامة على المستوى التشريعي، الذي يمس قوانين الدولة بصورة عامة، وتعديل بعض نصوص القانون -بلا شك- يحدث تغييرات على الجانب الحياتي تطبيقاً للقانون الجديد، وقد يكون لهذا التعديل وجهة لغوية، ولا أجد مثالاً أبين من المادة ٢ من دستور مصر الدائم ١٩٧١م ودستور 2014م التي بدأنا بها الحديث، فجانب من الفقه يرى أن تعديل المادة وتعريف كلمتي (مصدر ورئيسي) لم يغير في المعنى شيء، لأن في حالة تعارض تشريع مع الشريعة الإسلامية قبل التعديل -وهي في حالة أنها مصدر رئيسي- كان يستلزم عدم دستوريتها مثلها مثل تعارض تشريع مع الشريعة بعد التعديل بوصفها المصدر الرئيسي، أي أن ليس ثمة خلاف بين نص المادة الثانية من الدستور قبل وبعد تعديلها على النحو السالف بیانه، ففي الحالتين يجب ألا يتعارض التشريع مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإلا صح الطعن فيه بعدم الدستورية.

    جانب آخر من الفقه يرى أن التعديل لم يكن بلا فائدة، لأن التعريف جعل من مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً رسمياً أصيلاً للقانون في مصر، باعتباره من مبادئ القانون الكامنة والمستقرة في وجدان الأمة المصرية، وأنها بهذا أصبح لها قوة إلزامية تعلو التشريع في تدرج القواعد القانونية، وإن لم تصل لدرجة الدستور، مع مراعاة أن مبادئ الشريعة الإسلامية لها الأولوية على غيرها من المبادئ العامة للقانون وفقاً للمادة ٢ من الدستوري الدائم، وهذا الفقه ينظر للتعديل وجهة لغوية منضبطة، وأنا أراه أفضل من الفقه الأول.

    وهذا قد يأخذنا إلى أطروحة محترمة, تتعلق بماهية المحكمة الدستورية العليا, فهي هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها تتولى – دون غيرها – مهمة الفصل في دستورية القوانين واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية التي تثير خلافاً في التطبيق, وليس من المتصور تجاهل الكتابة القانونية غير المنضبطة أحد أسباب الخلاف في التطبيق.

     على رجل القانون عامةً والمشرع خاصة أن يقف على أرض لغوية صلبة، لأن الحرف والكلمة والجملة تصنع فارقاً قانونياً لا يستهان له، فاللغة والفكر وجهان لعملة واحدة, وإن كانت تلك الكلمات التي تبادلتها معكم لها جانب أكبر بالقانون ولغته, ألا أنها في الأصل نداء ودعوة لثورة لغوية نعود فيها للأصول, فلا مناص لكم يا معشر القانونيين من أن تحفظوا الحقوق بأقلامكم التي تنثر كلمات تقوم لها الدنيا وتجلس..

 

"إن الكلمة هي كل ما لدينا"

-صامويل بيكيت (1906م-1959م)

 

والسلام ختام..


مروان أحمد عوني الأغا

الطالب بالسنة الأولى بكلية الحقوق, شعبة اللغة الإنجليزية, جامعة طنطا.

Marwan Mahgoub

Operations supervisor at Teleperformance

٣ سنة

👏👏👏❤

Ahmed Awny

رئيس الاستئناف بمحكمة استئناف الأسكندرية

٣ سنة

👏🏻👏🏻👏🏻👏🏻👏🏻

لعرض أو إضافة تعليق، يُرجى تسجيل الدخول