وجهات نظر

قانون الفوضى.. أزمة دولة القانون في العالم العربي

مشكلة دولة القانون الحديث وهندساته الاجتماعية، واحدة من أبرز الاختلالات الهيكلية لمفهموم وتأسيس دولة مابعد الكولونيالية، والنظام السياسي في الدول العربية، والتي تتمثّل في شخصنة النظام السياسي والسلطة، والدمج بينها وبين الدولة في الوعي الجمعي من غالب آباء الاستقلال والحركات الوطنية، وتمدّد وتفاقم هذا الإدراك السياسي مع القادة السياسيين والانقلابيين الذين رسّخوا ظاهرة دمج الدولة في النظام وشخصنتهما، وأيضًا أجهزة الدولة في ظلّ موت السياسة.

قانون الفوضى..  أزمة دولة القانون في العالم العربي

تجسّدت الشخصنة الدولتية والسلطوية في ظلّ أنماط السلوك السياسي الشمولية والتسلطية - بحسب طبيعة النظام - وذلك من خلال التوظيفات السياسية للدين الإسلامي والمؤسسات الدينية الرسمية التابعة، وذلك في بناء نظام الشرعية السياسية، والتعبئة الاجتماعية والسياسية، وتسويغ وشرعنة الخطابات السياسية للحكم، وأيضًا في أسلمة النظام القانوني الكلي وانساقه الفرعية.

محاولات تديين السياسة من خلال السياسات الدينية أحد أبرز الأقنعة لستر أزمة شرعية الحكم، ونُظُم الخلافة السياسية.

دساتير مصر شوهت دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية

 الاختلال الهيكلي في النُظُم القانونية الوضعية مرجعه تحوّل بعضها إلى أداة قمع وضبط ذات طبيعة سلطوية غاشمة لا سيما القوانين الماسة بالحريات العامة والشخصية والتديّن والاعتقاد وحرية الضمير المعتقل وراء سياجات قمع العقل الحر، وأدّت الفوضى والاضطراب في سياسات التشريعية إلى هيمنة ثقافة وقوانين الفوضى واللانظام، ويعود ذلك إلى بعض مما يلي من أسباب:

1- مركزية موقع الحاكم – رئيس أو ملك أو أمير أو شيخ – في هرم الدولة والسلطة، وهيمنته على عمليات توزيع القوة بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، من خلال الدساتير وتعديلاتها والقوانين المنظّمة لصلاحيات كل سلطة، وإحالة الاختصاصات والصلاحيات والضوابط والقيود إلى القوانين المنظّمة لها. تقوم البرلمانات بوضع هذه القوانين وفق أهواء الحكّام، ومصالحهم السياسية بحيث تفرغ نصوص القوانين المنظّمة لهذه السلطات من قوّتها وفاعليتها واستقلال كلّ سلطة في إطار مبدأ الفصل والتعاون بين السلطات.

2- غالب التشريعات يتمّ وضعها كمشروعات قوانين تقدّم للبرلمان لتمريرها ثم إصدارها ونشرها بالجرائد الرسمية في الأوقات العادية. في بعض الحالات يقوم رئيس الدولة بإصدار قوانين من خلال نظام القرار- الجمهوري أو الملكي أو الأميري – بقانون وغالبًا دون شروط إصدارها الدستورية. في ظلّ الظروف الاستثنائية الطارئة – وغالبًا ما تعلن ولا تتوافر شروطها ولأسباب تخصّ أمن النظام – يتمّ إصدار قوانين استثنائية، وتشكيل محاكم استثنائية للطوارئ أو عسكرية من قبل رئيس الدولة وغالبًا ما تكون مسيّسة لقمع قوى المعارضة السياسية أيًا كانت اتجاهاتها وايديولوجياتها.

الانفصال بين القانون والسلوك الاجتماعي مرجعه الفسادات الهيكلية والإدارية

يشير تاريخ حالات ونُظُم الطوارئ العربية إلى تحوّل بعضها لجزء من القوانين العادية ومثالها الشهير الحالة المصرية منذ يوليو 1952 وحتى الآن! وكلّ بواعث هذا النمط من نظام القانون الاستثنائي سياسية وأمنية بامتياز على خلاف النصوص الدستورية المنظّمة العامة لها، وتتناقض مع الدساتير المقارنة والقوانين المنظّمة لها في الدول الأوروبية المأخوذ عنها هذه الدساتير ومثالها الشهير دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية وتعديلاته. وهو المرجع الذي تمّ تشويهه في التقاليد الدستورية المصرية منذ 1925 وتأسيس الدولة التسلّطية.

3- تضخّم الآلة التشريعية، بالثواني وتعديلاتها المتكرّرة، وذلك دونما مراعاة طبيعة المصالح الاجتماعية المتصارعة، وتمييز السلطة لمصالحها والقوى الاجتماعية المهيمنة، وخاصة رجال الأعمال وأشباههم في مصر. ثمّة انعكاسات سلبية لهذا التحيّز الطبقي لمصالح القوى المسيطرة على فاعلية القوانين في تطبيقاتها على الواقع الاجتماعي الموضوعي. غالبًا ما تُشكّل هذه القوانين المعطوبة محض أداة سهلة في أيدي السلطة الحاكمة للضبط السياسي والأمني والاجتماعي في دول العسر كثيفة السكان، لكن تاريخ هذه القوانين، ولا تزال، ينطوي على انفصال بينها، وبين السلوك الاجتماعي الجمعي والشخصي، ولا تجد ظلًا فاعلًا لها في التطبيق إلا عندما تقع بعض الجرائم أيًا كانت طبيعتها، أو اضطرابات سياسية أو اجتماعية أو أمنية. الانفصال بين القانون والسلوك الاجتماعي مرجعه الفسادات الهيكلية والإدارية، وانحسار تطبيقه عن بعض من ذوي السلطة والثروة والنفوذ.

4- تحوّل القانون في العقل السياسي والتشريعي وفي الإدراك السلطوي إلى محض أداة، وليس قيدًا وضابطًا لممارسات السلطة وبشخوص قياداتها وأجهزتها أيًا كانت مواقعهم ومراتبهم فيها، وأيضًا على المخاطبين بأحكام القانون.

5- هيمنة المقاربات الشمولية في صناعة وإنتاج القوانين من رجال القانون والقضاة، والمستشارين القانونيين للبرلمانات، والسلطة التنفيذية، ومن ثم سيادة النظرات التجريدية للقواعد القانونية العامة والمجرّدة، دونما إيلاء الجوانب السوسيو قانونية لفاعلية القانون، وتطبيقاته على الواقع الموضوعي كي يكون فاعلًا في الضبط الاجتماعي، والأهمّ التغيير الاجتماعي، وتنظيم المجالات العامة التي شرع لتنظيمها. ثمّة ميل للعقل القانوني المسيطر إلى التعميمات المجنحة دون إيلاء أهمية إلى بقية الطبقات والشرائح الاجتماعية ومصالحها وظروفها. الأهم غياب النظرات المستقبلية للتطورات الاجتماعية والتقنية لمسارات التطور القانوني وتطبيق وفعالية القانون، وهو ما يؤدي إلى كثرة التعديلات على التعديلات في القوانين، وهكذا.. إلخ.

القيود القانونية التي تحدّ من استقلال القضاء والقضاة ترمي إلى هيمنة السلطة التنفيذية

6- بعض المجتمعات العربية الانقسامية، تلعب قوانين الأعراف دورًا بارزا في تنظيم العلاقات الاجتماعية بها، ويلجأون إليها في المنازعات المختلفة، وتطبيق القواعد العرفية. من ثمّ لا تفعل قوانين الدولة في هذا الصدد إلا قليلًا!. الأهم انحيازات السلطة وبعض تركيب جماعة القوة داخلها إلى بعض التركيب الانقسامي وتحيّزاته إلى المكوّن الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وتعبّر عن مصالحه، واستصحب مصالحه في ممارساتها وفي بعض قوانين الدولة.

7- عدم استقلال السلطة القضائية، والجماعات القضائية عبر القوانين المنظّمة لها ولضماناتها واستقلالها، وأيضًا من خلال الصلاحيات الممنوحة بالقانون لرئيس الدولة والسلطة التنفيذية في اختياراته لرؤساء هذه الهيئات وقرارات إسنادهم لها من بين الشخصيات المرشّحة لرئاسة المحكمة الدستورية العليا إن وجدت في التنظيم القضائي، أو محكمة النقض – التمييز في بعض الدول – أو المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة، في الدول التي تأخذ بالتعدّد في النظم القضائية على النسق الفرنسي. هذا النمط من الاختيارات تبدو وراءه معايير لا تتفق ونظام الأقدمية بين المرشحين. لا شكّ أنّ القيود القانونية التي تحدّ من استقلال القضاء والقضاة ترمي إلى هيمنة السلطة التنفيذية على عمليات توزيع القوة بين السلطات كما أشرنا سلفًا، وعدم احترام مبدأ الفصل والتمايز الوظيفي بين السلطات والتعاون فيما بينهم، وهو ما يؤثّر في بعض الأحيان علي فاعلية تطبيق القانون، وخاصة في القضايا ذات الطبيعة السياسية.

8- السلطة التشريعية، وتركيبها الاجتماعي والسياسي، يتمّ هندستها من خلال السلطة وحزبها الحاكم أو الأحزاب المؤيدة لها والموالية سياسيًا. غالبًا ما يتمّ اختيار الموالين والأتباع للحاكم من خلال نُظُم انتخابية لا تتوافر فيها ضمانات قانونية وفعلية وإجرائية لحرية العملية الانتخابية. غالبًا ما تستدعي الانتخابات أساليب عديدة وسافرة للتدخّل لصالح مرشحي وقوائم السلطة الحاكمة، بل وتزوير إرادة واختيارات الجماعة الناخبة. من هنا لا تشهد غالب البرلمانات العربية أدوارًا فاعلة من أعضائها في التقدّم بمشروعات القوانين أو نقاشات عميقة وتعديلات جوهرية على المشروعات بقوانين المقدّمة من الحكومات. ناهيك عن شكلية وضعف ممارسة النواب لدورهم الرقابي على أعمال السلطة التنفيذية وسياساتها العامة والخارجية!. فتحوّلت البرلمانات إلى أداة بيد السلطة التنفيذية ورئيس الدولة أيًا كان.

ما سبق وغيره، من أسباب انهيار دولة القانون والحقّ والحرية في العالم العربي، وللحديث بقية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن