سنغافورة تجربة ناجحة في تحولها نحو الحوكمة الرقمية

كثيرة هي تجارب الدول في التحول الرقمي، وبعد أن أصبح استخدام الإنترنت حق اجتماعي وفرت هذه الدول ومن بينها سنغافورة خدماتها رقمياً، بشكل يتمحور حول المستخدمين وراحتهم.

م. أروى القباطي

تشمل عملية التحول الرقمي على إحداث تغيير شامل لجميع وظائف العمل الحكومي، حيث أضحى التحول الرقمي لدى الحكومات في عصرنا الحالي ضرورة تنافسية لتعزيز تجربة المستخدمين للخدمات العامة استجابة للطلب المتنامي من قبل المستخدمين والحاجة إلى خفض التكلفة والوقت اللازمين لإجراء المعاملات الحكومية.


احتلت سنغافورة منذ تأسيسها في 1965 موقعاً متقدماً في الابتكار الحكومي. وبدت تطلعاتها وطموحاتها كبيرة لتحقيق الازدهار الاقتصادي والإنجازات السياسية في ضوء غياب البنية التحتية أو الموارد الطبيعية فيها في منتصف القرن العشرين. حيث وضعت حكومة سنغافورة الرقمية احتياجات المستخدمين في صميم الخدمات الحكومية واستخدمت البيانات للربط بين مختلف الجهات الحكومية من أجل توفير تجربة سلسة للمتعاملين.


ومن عوامل نجاح تجربة سنغافورة في التحول الرقمي هو تشجيعها استثمار التكنولوجيا وإنشاء عوامل تمكين أفقية عمادها البيانات والاتصال التكنولوجي بين المؤسسات. فيقدم «مكتب الأمة الذكية والحكومة الرقمية» الرؤية والتنفيذ، ويوجه «مكتب البيانات الحكومية» السياسات، في حين يقع تنفيذ الرؤية الرقمية ورؤية البيانات على عاتق «الهيئة الحكومية للتكنولوجيا».

وكجزء من إقبال سنغافورة على التجربة الرقمية، طُورت منصة قياسية لابتكار الخدمات الرقمية ونشرها في كافة الجهات الحكومية في البلاد. وتستضيف الهيئة الحكومية للتكنولوجيا أدوات وخدمات المنصة على بنية تحتية مشتركة لضمان اتساق التطبيقات وجودتها بغض النظر عن المستخدم أو الجهة التي تطورها. وتتيح هذه المنصة للجهات الحكومية تركيز جهودها على تصميم الحلول المناسبة لتلبية احتياجات عملائها دون الانشغال بالبنية التحتية التكنولوجية اللازمة.

وتشمل المنصة تطوير برمجيات واستضافة تجهيزات حاسوبية وسيطة وخدمات بسيطة معظمها طُورت محلياً، وواجهة لبرمجة التطبيقات تتيح لأنظمة المنصة «التحدث» بسهولة أو تبادل المعلومات مع الأنظمة الرقمية لأية جهة حكومية أخرى.


وبحسب موقع ابتكر ibtekr فقد أثبتت منهجية الخدمة المشتركة هذه فعاليتها حيث تعتبر المنصة من أبرز أوجه الابتكار الرقمي في البلاد وشملت جوانب تنفيذها ما يلي:

المدفوعات الرقمية

تحولت حكومة سنغافورة بقوة إلى المدفوعات غير النقدية، وأتاحت التسديد الرقمي ابتداءً من 2017، وتوسعت في ذلك باستمرار. وتتيح خدمة (PayNow) المتوفرة في تسعة بنوك في سنغافورة إرسال الأموال واستلامها في الزمن الحقيقي دون الحاجة إلى معرفة بنك المستلم أو رقم حسابه. وشهدت هذه الخدمة، التي تتيح إجراء معاملات مالية مع الجهات الحكومية، إقبالاً هائلاً.

نظام الدخول الموحد الآمن إلى الخدمات الحكومية:

تتوقع الحكومة في سنغافورة احتياجات المستخدمين وتعمل على توفير تجربة تتمحور حول المواطن. ففي 2013، طرح نظام الدخول الموحد (Sing Pass) الذي يتيح لأكثر من 3.8 مليون مواطن ومقيم الاستفادة بأمان من أكثر من 300 خدمة حكومية رقمية تقدمها 110 جهات حكومية عن طريق إنشاء حساب واحد تتعرف عليه كافة المنصات الحكومية عوضاً عن إعداد اسم مستخدم منفصل وكلمة مرور لكل خدمة حكومية. كما تستخدم الحكومة مدخلات المستخدمين في تخطيط وتصميم الخدمات لتيسير المعاملات الرقمية وتقليص الوقت والتكلفة.

مواجهة كوفيد – 19

قامت حكومة سنغافورة بالتركيز على تسخير التكنولوجيا والربط بين الجهات الحكومية المختلفة لتقديم تجربة سلسة للمواطنين في مواجهتها جائحة كوفيد-19، إذ بادر موظفو الحكومة بعد أيام من انتشار أنباء عن تفشي الفيروس إلى إعداد مواقع إلكترونية وتطبيقات تزود الجمهور بمعلومات عن أساليب الوقاية. ولم يضطروا إلى البدء من الصفر بفضل توفر البنية التحتية الرقمية القوية وثقافة تصميم الخدمات التي تركز على المستخدم. ومن أمثلة ذلك: إطلاق موقع (MaskGoWhere.gov.sg) الإلكتروني بعد تسعة أيام فقط من تسجيل أول إصابة في البلاد. ويضم الموقع معلومات من مصادر عديدة كوزارة الصحة ووزارة الاتصالات.

وأتاح للمستخدمين معرفة متى وأين يمكنهم استلام مخصصاتهم من أقنعة الوجه، وقدم لوحات إعلانات للمجتمع ومعلومات عبر خط ساخن. وأطلقت الحكومة في 20 مارس تطبيق (Trace Together) لمراقبة التقارب بين الأفراد الذي قام بتحميله 20% من السكان في غضون شهر. ويتيح التطبيق الذي يعمل بتقنية البلوتوث الحصول على معلومات عن المستخدمين المتواجدين في المناطق القريبة.

مدينة ذكية جديدة

قامت سنغافورة بتطوير سبل جديدة للربط بين البنية التحتية الحكومية وقطاعي الأعمال والسكن. ويجري حالياً تصميم مدينة جديدة تدعى «بنغول» (Punggol) كتجربة لاختبار التنمية المستدامة القائمة على التكنولوجيا. وتتمثل الفكرة في استخدام بيانات أجهزة الاستشعار في تحسين العمليات المدنية عن طريق الجمع المتواصل للبيانات وتحليلها في الزمن الحقيقي. ستزود المساكن بمقابس ذكية مدمجة ولوحات توزيع ذكية تتيح ترشيد استهلاك الطاقة.

ويسعى مجمع الأعمال في المدينة إلى تحقيق كفاءة طاقة أعلى بنسبة 30% من المباني التجارية وعدم هدر المياه إلى جانب تدوير 100% من نفايات الطعام وتحويلها إلى سماد. وستشمل أنشطة الاستجمام العامة أنشطة تقليدية كالحقول والمنتزهات إلى جانب أنشطة جديدة قائمة على التكنولوجيا كالتدريب الافتراضي وألعاب الواقع المعزز ومرافق للحجز على الإنترنت. ستجري المحافظة على نظافة مرافق الاستجمام عن طريق نظام إدارة ذكي يستخدم أجهزة الاستشعار والروبوتات لتوفير خدمات تنظيف وصيانة أكثر فعالية. وتشمل وسائط النقل في «بونغول» حافلات ذاتية العمل.

مالاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي

ومن أهدافها طويلة الأجل، تعزيز الشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص وزيادة عدد مختبرات الابتكار بغية استخدام وتسخير الذكاء الاصطناعي تجارياً، فضلاً عن تنمية المواهب وزيادة فرص الدراسات العليا. ومن أوجه تطبيقها، التخطيط الذكي للشحن الذي يحسن مواعيد التسليم، ويسهم في انسياب حركة المرور، والإبلاغ الآلي عن الشؤون البلدية حيث يوجه الذكاء الاصطناعي الطلبات التي تستلم عن طريق روبوت دردشة (تشاتبوت) إلى الجهة المناسبة لمتابعتها، والتنبؤ بالأمراض والوقاية منها، وتسريع عمليات التخليص الجمركي بحلول 2025 باستخدام الذكاء الاصطناعي في مسح الوجوه وبصمة العين دون الحاجة إلى إظهار جوازات السفر للدخول إلى البلاد.


حققت سنغافورة الكثير من الإنجازات الحوكمة الرقمية لأنها وضعت خططاً طموحة واتخذت خطوات جريئة كاستقطاب المواهب الهندسية وبناء منصة تكنولوجية خاصة بها. كما أتاح الاستثمار في منصات مشتركة كمنصة (Tech Stack) الرقمية للجهات والدوائر الحكومية نشر الحلول بسرعة أكبر ومشاركة البيانات فيما بينها. وأدركت أن التغيير يستلزم وقتاً، فتحلّت بالصبر وأشركت الجمهور بفعالية للاستفادة من وجهات نظرهم ومدخلاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى