15-أكتوبر-2015

شينجي كاغاوا (أليكس غريم/Getty)

يبرع اليابانيون في كل شيء. هم في طبيعتهم شعب عملي وخلاق في آن واحد. يزرعون البطيخ المكعّب، يصنعون روبوتات باكية، ويورّدون السيارات الرخيصة الثمن. ولكن أخيرًا، بات اليابانيون يبرعون في كرة القدم. بعد أعوام طويلة من البناء، ثبّت المنتخب الياباني نفسه الرقم الأصعب كرويًا في القارة الآسيوية. احتراف اللاعبين اليابانيين اليوم في الخارج، خصوصًا في أوروبا. لم يعد أمرًا مستغربًا أو نادرًا كما كان في الماضي، فهم يتوزعون اليوم على مختلف دورياتها. غير أن هذا الحضور يبدو لافتًا في ألمانيا، التي تشهد أكبر عدد من اليابانيين المحترفين في الدوريات الكبرى للقارة.

مصنع اللاعبين

شهد موسم 2013-2014 وجود اثني عشر لاعبًا يابانيًا في البوندسليجا. قد يبدو الرقم عاديًا للبعض، لكنه ليس كذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن ثلاث دول فقط تمكنت من التفوق بعدد اللاعبين الأجانب الناشطين في البوندسليجا على اليابان آنذاك، وهي سويسرا والنمسا (الجارتان لألمانيا)، والبرازيل (أكبر مصدر للاعبي كرة القدم على مستوى العالم).

وتعود بداية الحكاية بين الألمان واليابانيين إلى العام 1964، عندما شارك المدرب الألماني الراحل ديتمار كرامر في استعدادات المنتخب الياباني في أولمبياد ذلك العام، ليلقب على إثر مساهمته هذه بـ"أب الكرة اليابانية". بعد ذلك، كان على اليابان أن تنتظر حوالي ثلاثة عشر عامًا، تحديدًا حتى عام 1977، كي تشاهد ابنها ياسوهيكو أوكوديرا يتألق في أوروبا كأول لاعب ياباني ينشط في القارة العجوز على المستوى الاحترافي. أوكوديرا تمكن من النجاح مع كولن وبريمن، لكن رحلته في ألمانيا لم تكن إلا البداية البطيئة للتألق الياباني في البوندسليجا.

ثلاث دول فقط تمكنت من التفوق بعدد اللاعبين الأجانب الناشطين في البوندسليجا على اليابان

2003 بداية عهد جديد

منذ تأسيس الدوري الياباني عام 1993 وحتى عام 2006، كان معظم اللاعبين اليابانيين المرتحلين إلى أوروبا يصلون إلى واحد من هذه الدوريات الثلاثة: الإيريديفيزي، البريمييرليج، والكالشيو. لكن الأوضاع بدأت تأخذ منحى آخر مع بداية موسم 2002-2003، عندما قرر نادي هامبورج الألماني تأمين خدمات المهاجم ناوهيرو تاكاهارا. حدث هام آخر جاء في العام التالي هو تعاقد Urawa redsمع الألماني جيدو بوكفالد ليترأس الإدارة الفنية للنادي الياباني. وقد استطاع كل من بوكفالد ومساعده (جيرت إنجلز) وخليفته (هولجر أوزييك) تحويل الفريق الغني إلى بطل للدوري الياباني ودوري أبطال آسيا في غضون أعوام قليلة.


السر في القيم المشتركة

يُعرف عن البرازيليين عدم انضباطهم، ويشتهر الإنجليز بتعجرفهم، فيما يوصف الفرنسيون بالمزاجيين... قياسًا على ذلك، لا شك أن اللاعبين اليابانيين لهم سلبياتهم. وقد يكون ضعف البنية الجسدية في غالبية الحالات إحدى أكبر هذه السلبيات، الأمر الذي يفسر عدم نجاحهم كثيرًا في دوري كالبريمييرليج مثلًا حيث الالتحامات القوية.

وعلاوة على ذلك، يمكن القول بأن أولاد "أرض الشمس المشرقة" يفتقرون عمومًا للمهارات الفنية العالية التي تمكنهم من الاستعراض والإمتاع وما إلى ذلك... وعليه، لا تتوقع عزيزي القارئ أن يخرج "رونالدينيو الجديد" يومًا ما من الدوري الياباني، ولا تنتظر من ياباني أن يقوم بمراوغة المدافعين كما يفعل ليونيل ميسي. لعل السر في الجينات الصفراء ربما. من يدري؟

لا يعتبر اليابانيون الدوري الألماني مجرد محطة انتقالية أو بوابة عبور لدوريات أخرى في أوروبا

غير أن هذه السلبيات المحدودة يمكن التغاضي عنها إذا ما تم النظر إلى الجزء المليء من الكوب، وهو في الحقيقة الجزء الأكبر منه. وإذا ما تفكرنا قليلًا في سر تألق اليابانيين في ألمانيا، سنكتشف العنوان الأبرز لهذا النجاح: القيم المشتركة.

فبين ألمانيا واليابان العديد من القيم المشتركة، كالانحياز إلى اللعب الجماعي على حساب نجومية الفرد، والتزام الاحترافية في التدريب، والأهم، الانضباط العالي داخل المستطيل الأخضر وخارجه. الانضباط على الطريقة اليابانية يعني هنا أنه يستحيل أن ترصد لاعبًا يدخن السجائر أو يشرب الكحول في أحد الملاهي الليلية عشية مباراة هامة، كما قد يفعل مثلًا نظراؤه البرازيليون أو الأرجنتينيون.

هذه القيم المشتركة، التي لا تقتصر فقط على المسائل الكروية بل تتعداها إلى الأمور الثقافية والاجتماعية، كانت عاملًا هامًا في سهولة اندماج هؤلاء اللاعبين في الحياة في ألمانيا. غير أن النقطة الأبرز في هذا الإطار تبقى الاحترام. فعندما بدأ البرازيليون على سبيل المثال بالتوافد إلى ألمانيا في التسعينايت، كان مجيئهم بهدف الانتقال للعب في إسبانيا وإيطاليا لاحقًا. لكن الحال مختلف مع اليابانيين الذين على ما يبدو يكنّون الكثير من التقدير للبوندسليجا ويوفونها حقها، ولا يعتبرونها مجرد محطة انتقالية أو بوابة عبور لدوريات أخرى في أوروبا.

في ميزان التعاقدات: صفقة رابحة

بعيدًا عن الجوانب الفردية المتعلقة بمستوى اللاعب وحرفيته والتزامه، يبقى العنصر المادي هو الأهم في كل صفقات استقدام لاعبين يابانيين إلى ألمانيا. هنا، يمكن الحديث على مستويين.

فعلى مستوى الكلفة المادية لأسعار اللاعبين، لا شك أن اليابانيين هم من أكثر الجنسيات التي لم تنتقل إليها عدوى تضخم التكاليف في الميركاتو. وبنظرة سريعة على أسعار انتقالات اليابانيين في السنوات الأخيرة، يمكن القول أنها منخفضة للغاية مقارنة بنظرائهم من الأوروبيين والأمريكيين الجنوبيين، وحتى الافارقة، ذلك أن الميزات والإمكانيات نفسها عند لاعب أفريقي مثلًا قد تكلف أضعاف المبلغ المدفوع في لاعب ياباني (أو شرق آسيوي عمومًا). وقد يكون المثال الأبرز على ذلك هو شينجي كاجاوا، الذي جاء إلى دورتموند عام 2010 مقابل مبلغ زهيد لم يتجاوز 350 ألف يورو مساهمًا بتحقيق لقب الدوري المحلي مع ناديه لعامين متتاليين، قبل أن ينتقل، بناءًا على رغبة والده، إلى مانشستر يونايتد الإنجليزي لقاء ستة عشر مليون يورو.

شينجي كاجاوا جاء إلى دورتموند عام 2010 مقابل مبلغ زهيد لم يتجاوز 350 ألف يورو

من جهة أخرى، يبدو أن إدارات الأندية الألمانية باتت تعي أخيرًا مدى ضخامة السوق الشرق-آسيوية، وباتت تسعى أكثر من أي وقت مضى إلى الانفتاح على مليارات الجماهير المتواجدة في تلك البقعة من الكوكب.

وبطبيعة الحال فإن جولة صيفية تحضيرية في الصين أو اليابان لن تكون كافية لاستقطاب الأعداد الكبيرة من الجماهير، وبالتالي الرعاة. لذلك بدأ الألمان يرسلون كشافيهم إلى شرق القارة الصفراء بحثًا عن لاعبين جدد، مع ما يرافق ذلك من تركيز إعلامي كبير على النادي، واستقطاب للمعلنين والرعاة والصحافة... الخ. ولا استثناءات هنا، فحتى بايرن ميونيخ دق أبواب بلاد السوشي من خلال الصفقة "الفاشلة رياضيًا الناجحة تسويقيًا" عند استقدامه الشاب الياباني تاكاشي أوسامي على سبيل الإعارة عام 2012.

يشيد الأسطورة الألمانية لوثار ماتاوس بالعلاقة الخاصة التي تربط اليابانيين بالبوندسليجا، معترفًا أن ما يجمعهم بالدوري الألماني أكبر بكثير مما يجمعهم بالدوريات الكبرى الأخرى في أوروبا. من دون أي شك، خروج هذه الكلمات على لسان ألماني كماتاوس يعني أن قصة الحب بين لاعبي اليابان والكرة الألمانية ستشهد فصولًا أخرى مشرقة في المواسم المقبلة.

اقرأ/ي أيضًا:
بواش ودي ماتيو والحظ ثالثهما!
فقط في دورتموند.. تركيا تصنع، أرمينيا تسجّل